تحديات الإخوان المسلمين في المئوية الثانية- مراجعات وحلول

لم يكد يمضي قرن على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، هذا التنظيم ذائع الصيت والأكثر اتساعًا في أرجاء العالم العربي، والذي بزغ نجمه إثر انهيار نظام "الخلافة".
وخلال عقودها الغزيرة، توسعت الجماعة وامتدت جذورها في كل مكان، وتفرعت عنها أحزاب وجماعات وتيارات شتى، وخاضت في غضون مسيرتها الطويلة حروبًا وصراعات ونزاعات جمة، بعضها كان مع خصوم داخليين، والبعض الآخر مع أعداء خارجيين.
أقامت الجماعة تحالفات متنوعة الأطياف، ومع مختلف المرجعيات، أما عمليات المراجعة والتقييم، فقد تباينت بين أقطار العالم العربي المختلفة، حيث شهدنا بزوغ حركات وشخصيات قيادية، تجاوزت خطابها التأسيسي الأصلي، لتبتكر نسخًا متباينة من ظاهرة باتت تعرف باسم "الإسلام السياسي"، تتعدد مشاربها، ولكنها في معظمها الأعم الأغلب، صنعت من نفس "النسيج"، بعد إخضاعها لعمليات تعديل وتكييف وصقل.
إننا لسنا الآن بصدد إجراء "محاسبة تاريخية"، لتسجيل إيجابيات الجماعة وسلبياتها، أو لاستعراض تحولاتها وتقلباتها، فما يهمنا في هذا المقام، هو استعراض التحديات الجسيمة التي تواجهها الجماعة، وهي على أعتاب دخول مئويتها الثانية، حيث تتصاعد وتيرة عمليات "التشويه" و"الربط بالإرهاب".
وتتوالى القرارات والإجراءات بحظر الجماعة في العديد من الدول، وتتزايد المطالبات من داخل صفوفها ومن قبل بعض حلفائها، بحل الجماعة ذاتيًا، أو على الأقل التخلي عن اسمها الذي أصبح مرادفًا لها.
وتتسارع تنظيمات رديفة، نشأت في الأساس من صلب "المنظمة الأم"، إلى إعلان انفصالها عنها، والتبرؤ من أي علاقة تنظيمية بمركزها، أو على أقل تقدير، إظهار مسافة فاصلة وتمايز واضح عنها.
لمحة من التاريخ
يسبق تأسيس جماعة الإخوان المسلمين (عام 1928)، تشكيل واستقلال معظم دول المنطقة العربية، وقد أبصرت النور، قبل أن يشق "الوعد البائس" طريقه لإنشاء أشنع الكيانات الاستعمارية في التاريخ: إسرائيل.
تعاملت الجماعة مع عهود ملكية وسلالية، ومع جنرالات و"قادة" استولوا على السلطة على متن دباباتهم وعبر شاشات تلفزيوناتهم القديمة، وفي أثير موجات إذاعاتهم، وقبل اختراع الـ "إف إم"، وبالتالي يمكن القول، إن تاريخ الجماعة، هو إلى حد بعيد، جزء لا يتجزأ من تاريخ المنطقة العربية، وربما ما وراءها.
لطالما كانت الجماعة في صميم الصراعات العربية البينية، ولاحقًا ستصبح لاعبًا رئيسيًا من بين لاعبين كثر، على الساحتين الإقليمية والدولية.
في البداية، في زمن التنافس بين الممالك العربية، وقبل انتشار الجمهوريات، استغلت بعض العواصم نفوذ الجماعة، لتعزيز دورها ومكانتها، واستثمرت الجماعة التنافس بين عدد قليل من الدول العربية، قبل أن تدخل في مرحلة ما بعد النكبة، وما بعد الحرب العالمية الثانية، وسنوات الحرب الباردة، فتنحاز الجماعة إلى معسكر في مواجهة آخر، وتتعرض للاضطهاد من قبل فريق محسوب على الشرق، وتحظى بدعم سخي من بعض عواصم فريق محسوب على الغرب.
طوال هذه العقود الستة الممتدة من التأسيس حتى سقوط الاتحاد السوفياتي، لم تفقد الجماعة حاضناتها وداعميها، في العالم العربي، وفي الغرب، الذي كان ينظر إليها كحليف طبيعي في مواجهة المد الشيوعي والقومي (البعثي- الناصري).
كانت الانقسامات الدولية والعربية، تمنح الجماعة هامشًا للمناورة وسبلًا للبقاء والتوسع، بالرغم من حملات "التشويه" و"الاجتثاث" التي كانت تتعرض لها بين الحين والآخر، في هذه الدولة أو تلك، أما اليوم، فالصورة تبدو مختلفة بشكل ملحوظ.
أغلبية العواصم العربية تدرج الجماعة على "قوائم الإرهاب"، وتلاحقها كما طاردت الصين كونفوشيوس في عهد الثورة الثقافية لماو تسي تونغ، ولا يوجد من بين هذه العواصم من يجرؤ على الجهر بعلاقة مع الجماعة، أو دعمه لها، أو الدفاع عنها.
والهامش الذي تمتعت به الجماعة إبان الربيع العربي، في بعض العواصم العربية والإقليمية، أصبح ضيقًا للغاية، ويزداد انحسارًا تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية.
بالتوازي مع الحملات العربية الشرسة على الجماعة، طورت عواصم الغرب، خطابًا وسلوكًا يضع الجماعة في دائرة الاستهداف، إذ يجري تصنيفها كجماعة إرهابية، وتحميلها مسؤولية أفعال تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، وربما "بوكو حرام" النيجيرية، وحركة "الشباب" الصومالية.
وتتعرض مؤسساتها المالية والدعوية والتربوية للملاحقة، وبطريقة تكاد تحاكي ما يجري في العواصم العربية من عمليات مطاردة، لا يحدها القانون ولا يضبطها المنطق.
في تاريخها العريق، تعرضت الجماعة لقرارات الحظر والحل مرات عديدة:
- في مصر، مهدها الأصلي، حُلت أول مرة في عهد النقراشي باشا (1948)، وفي عهد جمال عبدالناصر (1954)، وصولًا لإعدام سيد قطب وعدد من قياداتها (1965)، ولاحقًا بعد الإطاحة بحكومة الدكتور محمد مرسي (2013)، حيث جرى إعلانها جماعة إرهابية، ولا يزال هذا القرار ساريًا حتى يومنا هذا.
- في سوريا، سبق القانون رقم 49 لسنة 1980 أحداث حماة (1982) بعامين، وقضى بتجريم الجماعة والحكم بالإعدام والسجن المؤبد على أعضائها.
سقط نظام الأسدين، وبقيت الجماعة، وهي اليوم تربطها علاقة "شائكة" مع العهد الجديد، لا سيما بعد الدعوات الموجهة للجماعة بحل نفسها، من قبل شخصيات مقربة من سلطة الرئيس بشار الأسد.
- وفي العراق، لم تنعم الجماعة بحياة طبيعية منذ سقوط العهد الملكي (1958)، حتى سقوط بغداد (2003).
- وفي تونس، لم تتعاف حركة "النهضة"، بوصفها نسخة أكثر اعتدالًا وتنويرًا من الجماعة الأم، من ملاحقات بورقيبة وبن علي، حتى بدأت تتعرض للملاحقة من قبل قيس سعيد و"خطابه" المتصلب.
- وفي الأردن، وبعد عقود من التحالف، تم حل الجماعة بقرار قضائي نهائي، ومصادرة المقار والممتلكات، وملاحقة الأموال المنقولة وغير المنقولة.
- وفي السودان، تقوم رواية خصوم الجيش والبرهان، على افتراض أنه يحتضن فلول نظام البشير، المتهم بالانتماء لجماعة الإخوان.
- ولم يشفع لإخوان اليمن، قتالهم إلى جانب التحالف العربي ضد الحوثيين، حيث لطالما تعرضوا للإقصاء والتهميش، وصولًا إلى "النيران الصديقة" التي طالت باستمرار مواقع التجمع اليمني للإصلاح.
والخلاصة، أن الجماعة، وهي على أعتاب دخول مئويتها الثانية، لم تعد تحظى بساحات ومساحات آمنة ومضمونة، باستثناء جيوب هنا وبقايا نفوذ هناك، كما هو الحال في سوريا، وغرب ليبيا، وبدرجة أقل في مناطق أخرى من دول الإقليم.
ماذا يعلمنا التاريخ؟
"الحل ليس هو الحل الأمثل"، تلك هي الخلاصة الأساسية من تجارب العلاقة بين الإخوان والسلطة في الدول التي يعيشون فيها.
الجماعة حُلت مرات عديدة في مصر، وفي أول انتخابات حرة ونزيهة، اكتسحت انتخابات الرئاسة ومجلس الشعب.
وتجربة حركة النهضة التونسية مع سنوات القمع والاضطهاد، لم تمنع الحركة من تصدر القوائم في صناديق الاقتراع في السنوات الأولى للربيع العربي، قبل تفاقم ظاهرة الثورات المضادة.
وإخوان سوريا، لم تقض عليهم سنوات الإعدامات ولا سجون تدمر وصدنايا والمزة، فما زالوا لاعبًا مهمًا في المشهد السوري، وحماس في فلسطين، ما زالت تحظى بشعبية واسعة لا تضاهيها شعبية الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، بكل فصائلها.
والانتخابات الأخيرة في الأردن، أظهرت حجم الجماعة وتأثيرها العابر لمختلف ألوان المجتمع الأردني، بالرغم من التضييق والاستهداف.
يكمن الحل في إطلاق مسارات التحديث والديمقراطية والتعددية، قولًا وفعلًا، وبما يسمح بظهور تيارات وأحزاب وجماعات أخرى، تحدث التوازن المطلوب في الحياة السياسية الداخلية في دولنا ومجتمعاتنا، وتتجاوز ثنائية "الإخوان- الدولة العميقة" المسيطرة.
يكمن الحل في ضمان منظومة الحقوق والحريات للأفراد والجماعات المدنية والسياسية والحزبية، بصورة واقعية، وليس بطريقة مشوهة، تخفي تحت ستارها مستويات متفاوتة من الاستبداد.
الحل ليس بيد "السلطة" وحدها، بل هو مسؤولية مختلف التيارات التي أدى ضعفها وتآكل نفوذها، إلى خلق فراغ هائل، ملأته حركات الإسلام السياسي، فالمجتمع، شأنه شأن الطبيعة، يكره الفراغ، وبدل سياسة "إضعاف القوي" المتبعة في أغلب الدول العربية، والمعدة لمواجهة الإخوان والإسلام السياسي، يجب اتباع سياسة "تقوية الضعيف" لإحداث الاتزان والتوازن في الحياة الداخلية.
وفي المقابل، يبدأ الحل بقيام الجماعة/الجماعات، بإجراء مراجعات عميقة وجادة، لتجربة قرن من الخيارات والسياسات والتحالفات، والاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت، فالمراجعة عشية المئوية الثانية، يجب ألا تنتظر ضربة قاصمة هنا، أو انشقاقًا مدويًا هناك.
المراجعة ضرورية في كل وقت وحين، وتصبح شرطًا جوهريًا، عندما تشتد الأزمات وتتفاقم التحديات. ويجب أن تشمل المراجعة عشية المئوية الثانية، مفاهيم أساسية لنهج الجماعة، فلا يجوز الاكتفاء بالقول: إن التوجه العام لمواقفنا وسياساتنا كان سليمًا، وأن الأخطاء التي وقعت، إنما كانت هامشية وليست جوهرية، ومن قبل أفراد وليس من قبل الجماعة ذاتها.
يتطلب الحل، اعتراف الدولة العميقة، وبقية التيارات الفكرية والسياسية في مجتمعاتنا، من المدارس العلمانية على وجه الخصوص، بأنها أساءت تقدير مكانة ودور "الإسلام" في تشكيل وعي الأمة وثقافتها، وتحديد سلوكها السياسي والانتخابي، وتكوين مواقفها وتوجهاتها. ولكن هذا موضوع يطول شرحه، وليس في هذه المقالة متسع له.
لن يتحقق الحل من خلال "إنتاج" نسخ رسمية من "الإسلام السياسي"، تنشأ فاقدة للاستقلالية والمصداقية، فقد جرى تجريب هذا الخيار، وجرت محاولات لاحتكار المساحة الدينية و"إمارة المؤمنين"، في دول عدة، وجرى التعويل على شرعيات أخرى، لم تصمد طويلًا أمام ضعف "شرعية الإنجاز" في عدد غير قليل من الدول الوطنية العربية الحديثة.
لا يكمن الحل في إنتاج نسخة جديدة من الإسلام، متوافقة مع متطلبات التطبيع مع إسرائيل وتوابعه، فتلك محاولات بائسة، تلامس حدود "الزندقة"، وما أبعد الفرق بين مثل هذه المحاولات المشبوهة من جهة، والدعوات الصادقة والمخلصة لإصلاح وتجديد وتحديث الخطاب الديني من جهة أخرى، فالأولى، جزء من العدوان الصهيوني- الإمبريالي على أمتنا وشعوبنا، وعلى رأسها فلسطين، والثانية، دعوة لمواكبة العصر، وإدراك ضروراته وأولوياته.
هنا بيت القصيد، الحل يكمن في انصراف مختلف التيارات في الدولة والمجتمع، لمواجهة الأخطار الحقيقية التي تهدد شعوب أمتنا العربية، لا سيما في المشرق، فلا يجوز أن يظل أغلب المهتمين بالعمل السياسي والعام، مجرد متفرجين على الهيمنة الغربية والتوحش الصهيوني، وترك الساحة للإسلاميين.
لا يجوز الاكتفاء بتوجيه الاتهامات لهم باستغلال قضية غزة لتحقيق أهداف حزبية "ضيقة"، لماذا لا تركبون أنتم الموجة، وافعلوا ذلك واقطعوا الطريق عليهم، وحققوا مكاسب حزبية "واسعة"، إن كنتم صادقين؟ فهذا من المسلمات في العمل السياسي والمنافسة الحزبية.
إن انصراف معظم التيارات الحزبية والفكرية، عن مواجهة العدو والتصدي لخططه، وتزايد الدعوات للانكفاء لمواجهة الهموم المحلية، وعلى أساس "النأي بالنفس"، أدى إلى تصدر الجماعة للمشهد، في ساحات عدة، وسيساهم في تعزيز دورها ومكانتها، بالرغم من الملاحقة ومحاولات الاستئصال.
وليس من المستبعد في هذا الإقليم المتقلب، أن نستيقظ ذات صباح، على عودة "الإسلام السياسي" بقوة أكبر، بنسخه القديمة أو بنسخ جديدة، منقحة ومزيدة، أو العكس.
أما التسرع في إعلان وفاة الإسلام السياسي والتبشير بمرحلة "ما بعده"، فتلك أوهام فكرية، ساذجة في أحسن الأحوال، ومدفوعة الثمن في أسوئها. هنا الوردة، فلنرقص هنا.